لو كان عمر بيننا؟

قرأت منذ مدة كتابا للدكتور أحمد الخيري العمري بعنوان "استرداد عمر من السيرة إلى المسيرة".. و هو كتاب يتحدث عن عمر بن الخطاب بطريقة مبتكرة، في قالب متجدد بعيدا عن تلك الكتابات السردية الكلاسيكية .. و قد  فكرت مليا قبل أن اكتب هذا المقال، ذلك أن شخصية عمر كانت من الشخصيات العظيمة و النادرة تاريخيا و حضاريا.. و قد خفت ان أكتب مقالا عنه فلا أوفق في إعطائه حقه ... و لكن كلما تفكرت أكثر في حال مجتمعنا البائس تذكرت عمر و شخصية عمر و أعمال عمر و فكر عمر ... لذلك مع كل ملاحظة تشد انتباهي أتساءل في نفسي: ماذا لو كان عمر بيننا؟ ... أجل ماذا لو كان عمر بيننا، كيف سيكون الوضع يا ترى؟
عمر بن الخطاب الفاروق بين الحق و الباطل ... شخص أعجبت بل أغرمت بشخصيته حتى النخاع، من أشد أعداء الاسلام إلى أشد أعداء الكفر... مفكر و محلل و قائد... جمع بين الأضداد كما جمع بين المترادفات.. قوي غليظ على المنافقين و الكفار ... رحيم رقيق مع الضعفاء و المستضعفين... شخص لا يمكن تملقه و لا يهتم لزائل ... بسيط في نمط عيشه ... راق في نمط تفكيره .. لربما مهما كتبت الآن فلن أوفيه حقه من الوصف و سرد الحقائق عنه.. و هذا ليس مدحا، فأعمال عمر أكبر و أعظم من توصف بالمدح ... إنها حقائق ثابتة .. و انجازات ليس بعدها انجازات ...

سأعرج فيما بعد على بعض المواقف و الأعمال التي قام بها عمر و التي جعلتني أتمنى ان أسافر لفترة خلافته و أسأله سؤالا واحدا فقط: "سيدي هل يمكن أن تسافر معي للمستقبل لتنقذ هذه الامة؟" .... ذلك السؤال فقط، و لن أطلب غيره... عمر بن الخطاب، سيدي أبا حفص عمر بن الخطاب، كتب التاريخ بحروف من ذهب دون ان يكون ذلك هدفه لأن هدفه كان أسمى و أرقى من تفكير سائر البشر، كان يهدف لتحقيق إرادة الله للانسان في الأرض، كان يهدف لبناء ذلك الانسان ... خليفة الله في الأرض تماما كما ورد في سورة البقرة ...
كنت قد شاهدت مسلسل عمر الذي عرض منذ بضعة أعوام في شهر رمضان و الذي حقق ثورة فكرية و ثقافية في عالم الانتاج التاريخي التليفزيوني... شخصية عمر كما وصفوها في المسلسل، تجعلك تحب عمر دون أن تدري... تجعلك تقدس عمر و تشعر بالفخر و الامتنان للانتماء لأمة آوت عمر من قبل ... فتقول في نفسك: "يا لفرحتي انا و عمر من نفس الامة"، و لكن السؤال: هل هذا يكفي؟ أيكفي فقط أن تنتمي للإسلام مثله، ان تنطق اللغة العربية نسبيا مثله؟ أهذا يكفي حقا؟... في ذلك المسلسل، تم الكشف عن أعمال عمر و عن انجازاته، عن نهجه لبناء حضارة إنسانية في فترة وجيزة و عن تلك القطع و الأشياء الصغيرة في حياة عمر و التي جعلت منه شخصية عظيمة في نظري و ربما في نظر كل من شاهد المسلسل... أجل سوف تحب عمر و سوف تتمنى لو أنك كنت تحمل السيف تحت لواءه... كنت لتتمنى أن تسمع صوته الحقيقي ... ذلك الصوت الذي يزعزع وساويس النفس و الشيطان في داخلك و يمنحك مزيدا من التقوى و الإيمان الصادق... لقد كان مجرد مسلسل ... لكن ليس لي، لقد كان فخرا و تشجيعا للاقتداء برحمة عمر و بغلظة عمر و بفكر عمر...

أما وقد قرأت ذلك الكتاب بعد المسلسل، فقد كان الأمر أشبه بصب بنزين على نار خافتة... عمر الذي اغرمت بشخصيته و تأثرت بها .. تلاعب بمشاعري و صار يتقاذفني بين الاحباط و الاكتئاب و بين الأمل و التفاؤل... ليس عمر وحده من فعل ذلك ... فأسلوب الكاتب لعب دورا كبيرا كذلك، الدكتور العمري لم يقدم معلومات بحتة عن عمر كما يفعلها كتّاب التاريخ عادة، لم يركز على الولادة البيولوجية و نشأة العائلة للشخصية بقدر ما ركز على ولادته الفكرية ... ولادة عمر المسلم أو بالأحرى المؤمن المحسن... أسلوب الكاتب مبتكر كما سبق وقلت، يجمع بين الحاضر و المستقبل.. يخبرنا عن عقل عمر و فكر عمر باستعمال مفاهيم و مفردات معاصرة .. سواء كانت تكنولوجيا او فكرية فلسفية... يخاطبنا عن آرائنا و عن رؤيتنا لفهم عمر للاسلام و القرآن... لذلك سيتم التلاعب بمشاعرك و انت تقرأ هذا الكتاب... أجل ستصبح ككرة تتقاذفها مشاعرك .... و المميز أكثر بشأن هذا الأخير هو انك لن تستطيع إيقاف قرائته.. كل صفحة تكملها تجعلك تتحمس أكثر لقراءة التي تليها .. و كل فصل تنهيه يدفعك لاستثمار مزيد من الوقت في تحليله و ربطه مع بقية الفصول.. ستتحول و انت تقرأ هذا الكتاب إلى محلل نفسي و اجتماعي .. انا شخصيا وصلت لدرجة أنني كنت أتغدى و أحمل هاتفي و أقرأ عن عمر ... أقرأ عنه ليلا قبل ان انام و انتظر الصبح بفارغ الصبر لأكمل عن عمر ...

أجل هناك مواقف كثيرة لعمر و كما قال الكاتب لعل التاريخ لم يستطع ان يجد له بابا ليدخله منه، فشخصيته تتناسب مع كل الأبواب و لعل أكثرنا يعرفه بالعدل، ذلك انه الوحيد الذي استطاع ان يفهم العدل حق فهمه و يضعه قيد التنفيذ دون أن يضر بأحد و لعل باب العدل كان فارغا إلا منه، لذلك آثر المؤرخون أن يمثلوا به أسمى مواقف العدل و العدالة ... أجل عمر العادل، عمر الذي حقق العدالة الاجتماعية التي نفتقر لها اليوم .. عمر الذي عدل حتى في حق الحيوان .. و كان يخشى الله حتى في بغلة في العراق... ذلك هو المثال الأسمى للاسلام..
قرأت الكتاب و لعل هناك الكثير من المواقف لعمر .. لكن هناك موقفان .. موقفان جعلاني أقف عندهما مطولا و أحلل كثيرا و أقول ... ليت عمر بيننا ..هذان الموقفتن هما: موقف عمر من الخمر و مشكلة العصر "المرأة" ... أجل عمر الغليظ و تعامله مع المرأة ... و سأبدأ بعمر شارب الخمر.. عمر كان من أكثر شاربي الخمر في الجاهلية و عندما أسلم كانت الخمر لم تحرم بعد مع ذلك كان يفكر و يسقط تعاليم القرآن على الواقع و يحلل ... الخمر تفقد الانسان وعيه و الاسلام يرفع الانسان إلى أسمى درجات الوعي و الحضور خاصة في الصلاة ... فكيف يجتمع التضاد؟ و كيف لفاقد الوعي أن يخلص في العبادة؟ ... لم تكن الآية نزلت و لكن عمر استنتجها قبل نزولها... فهم المعنى الحقيقي للايمان و العبادة و راح يجمعه مع ما كان من عادات القوم آن ذاك... و رغم انه كان من أكثر الشاربين لها، إلا أنه امتنع عنها بسرعة.... لنتوقف هنا قليلا !! .... ان تقول شخص مدمن على شيء، ليس سهلا ان يوقف إدمانه.. كمتعاطي المخدرات أو كالسارق مثلا ... الامر يصبح أقوى من أن تتحكم فيه، الادمان على شيء لن يتوقف بسهولة ... سيعذب المتعاطي و سيتطلب إرادة قوية و عزيمة و ربما متابعة طبية ... لكن ليس لعمر.. عمر الذي فهم فامتنع مباشرة .. عمر الذي يملك شيء نفتقر له اليوم كثيرا الإيمان و التقوى.. عمر الذي يستطيع ان يعذب نفسه بكل سهولة بل يرضخها ليرضي ربه ...  أجل ذلك هو عمر... فأين نحن منه؟ نأكل مال اليتيم و نسرق مال الأجير و نقوم بكل أنواع المنكرات ثم نقول سنمتنع يوما ما و نتلو تلك الآية بكل فخر و كأننا شعب الله المختار الذي لن يعاقب يوم القيامة: " أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ " و ننسى الجزء الذي يسبقها: " اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ".. (سورة المائدة 98)

أما عن المرأة... عندما قرات ذاك الفصل من ذلك الكتاب .. "المرأة في حياة عمر" ... لا انكر أن العنوان شدني .. ظننت في الوههلة الأولى ان الكاتب سيتحدث عن تعامل عمر مع زوجاته أو ربما مع بناته .. لكنني تفاجات أن المراة المقصودة كانت نموذجا و ليس شخصا من أقاربه .. بمعنى آخر كنت أنا و أنتِ و هي معنيات بالأمر.. كان الكاتب يتحدث عن منظور عمر للمرأة المسلمة و كيف يجب أن تكون .. تلك المرأة التي أيدها و شجعها و حفظها و أكرمها ... اجل عمر الغليظ أعطاها حقها .. في حين ينتقدها الكثير بشكل شمولي اليوم.. عمر كان ضد استعمال المرأة لمآرب تسويقية.. كان ضد استغلالها و انوثتها لتمرير الأعمال تماما كما يفعل الغرب اليوم .. كل الاشهارات، كل المناقشات و الصفقات الحساسة يرسلون امرأة للقيام بها.. عمر رفض ذلك .. كان يحترم المرأة و يغار عليها .. كان يحفظها كجوهرة دون ان يحد من حريتها ... اجل فعمر كان أشد الرجال غيرة على نسائه، مع ذلك لم يمنع واحدة منهن من الذهاب للمسجد و الصلاة هناك... و هو اول من نصّب وزيرة لمتابعة أحوال السوق و التجارة لذلك فهو لم يكن ضد عملها ... أتساءل فقط لو كان بيننا اليوم ... كيف سيتعامل مع المرأة؟ .. لست متأكدة و لكن بالنسبة لشخص عادل مثله، لربما جعل مدارس خاصة للبنات و فصلها عن الصبيان .. لجعل مناصب عمل لهن و أعطى حرمة لمكان عملهن .. ربما سن قوانين لحفظهن و جعل مراكب و حافلات خاصة لنقلهن ... لا أدري إن كان ذلك ما سيكون حقا و لكن ذلك ما أظنه في تلك الشخصية التي أسرتني ...
لو توغلنا في موضوع المرأة لربما لن نخرج أبدا، فاسقاط الوعي العمري على واقعنا اليوم سيأخذ منا مجلدات و مجلدات لتحليله .. لذلك سأكتف بهذا القدر... و انتقل إلى شخصية عاصرت عمر و كيف تعاملت مع الفكر العمري... هي الأخرى شخصية أسرتني بشدة و ربما هي ثاني شخصية تاريخية تحوز إعجابي و تقديري بعد عمر.. تلك الشخصية هي خالد بن الوليد بن مغيرة... الفارس المقاتل الصنديد... القائد المحنك و داهية الحروب .. لم يخسر معركة في حياته .. مخطط بارع و مقدام لا يخشى احدا سوى ربه .. من صفاته الاستقلالية و سرعة البديهة .. شخص مثل هذا على رأس جيش إبان الفتوحات الاسلامية الفتية ... كيف ستتعامل معه؟ أجل انت؟ كيف ستتعامل؟... ربما ستقدسه و ربما لن تجعل أحدا غيره يقود الجيش أبدا.. لكن عمر ليس انت ... عمر مختلف .. عمر صانع حضارة له نظرة مختلفة، كان يعرف أن صناعة الحضارة لا تعتمد على شخص واحد بل على الجماعة، لذلك كان يشجع استثمار مواهب الشباب و اكتشافها.... عمر أمر بعزل خالد.. صحيح ما إن تسلم عمر الخلافة، كان أول قراراته عزل خالد عن إمارة الجيش.... فلو كنت خالد، ماذا كنت لتفعل؟ هل تسكت و تتنحى بعد ان كان لك الفضل في فتح العديد من المدن و القرى؟ ... لا أظن أنك ستقبل خاصة و انت تملك تلك الصفة، الاستقلالية و ولاء الجيش لك.. ستحس أن عمر يغار من انتصاراتك... أو يحط من شأنك... كنت على الأرجح ستقوم بالانقلاب... كما يحصل في وقتنا الحالي... لكن خالد كان يعرف كذلك أنه ليس الحضارة هو جزء منها و لكنه ليس كلها ... خالد انصاع لأوامر الخليفة لأنه لم يكن يريد دنيا بل أراد الآخرة... أراد لتلك الحضارة ان تقوم و كان يعرف أن وقوفه  ضدها و انقلابه لن يسبب سوى القضاء عليها و هي فتية لم تبلغ الحلم بعد... اولئك هم العظماء الذين وضعوا الطبيعة البشرية الشريرة جانبا و ركزوا على الهدف الأسمى... الخلافة على الأرض و بناء حضارة الانسان و نشر الدعوة المحمدية...

"لذلك أتساءل، لو كان عمر بيننا؟ هل كان سيكون ربيع عربي؟ هل كنا نعاني اليوم من الفقر و الظلم و الاستكانة؟ هل سيكون لنا شأن بين الامم؟ هل كنا لنحكم العالم بدل الولايات المتحدة الأمريكية؟ هل و هل و هل...

و هل هاته الأسئلة تحتاج فعلا عمر للإجابة عليها أم ان عمر نائم في دواخلنا ينتظر أن نعطيه شارة الانطلاق ليصنع الحضارة من جديد... سأكمل كما أكمل الدكتور العمري في كتابه... حياة عمر، سهل الولوج إليها و صعب الخروج منها... لذلك لنسترجع عمر و ليكن كل واحد فينا عمر ..."


    

Commentaires